الفصل الحادي والعشرون
العودة إلى مون فليت
غبت من وعيي ساعات طويلة ..
وعندما افقت .. وجدت نفسي راقدا على سرير في حجرة بها مدفأة موقدة .. وفتحت عيني بصعوبة .. ورايت رجلين جالسين على مائدة قريبة من سريري .. وكانا يتحدثا بصوت منخفض .. وقال احد الرجلين:
- يبدو انه سيستيقظ .. ربما سيعيش ليحكي لنا من هو .. وماذا حدث.. لابد ان نقدم له بعض الشراب الساخن لان الليلة باردة .. والمكان هنا في هذه الحانة بارد ايضا .. تصور يا صديقي اني لم ادخل الى حانة ((هواي نوت )) هذه منذ اكثر من عشرة سنوات .. منذ ان غادرها ((آلزفير)) ..!
وعندما سمعت اسم ((آلزفير)) قمت جالسا فوق السرير وانا اشعر بان الالم يكاد يحطم جميع اعضاء جسمي .. والتفت حولي من جميع انحاء الحجرة احدا سوى هذين الرجلين .. ولذلك فقد صحت ملتاعا والخوف يملا قلبي :
- آلزفير!! .. اين آلزفير؟! .. اين هو..؟!
وتقدم الي احد الرجلين وهو يحاول ان يهدئني .. والتفت الى احد زميله الا خر وقال :
- انه يخطرف.. انه يهذى!
فصحت بالرجلين مرة اخرى:
- انا لا اخترف ولا اهذى انا اسالكما عن ((آلزفير بلوك)) .. اين هو..؟!
وعندما سمع الرجلان هذا الاسم نظر كل منهما الى الاخر في نظرات حائرة .. واقترب مني على الفور احد الرجلين فتذكرت على الفور ملامحه .. انه (( راتسي)) ..!
وقال ((راتسي)) مندهشا :
- من انت .. من انت الذي تعرف ((آلزفير بلوك)) ..؟!
وقلت له وانا اكثر منه دهشة :
- الا تعرفني يا ((راتسي)) .. لقد افترقنا منذ زمن طويل .. ولكني تذكرتك الان .. قل لي اين ((آلزفير)) ..
احتضني راتسي وامسك بيدي بين راحتيه واخذ يسالني في لهفة .. اين كنت .. ومن اين جئت .. وما قصة هذه السفينة .. ولكني قلت له بالحاح :
ساحكي لك كل شئ فيما بعد .. ولكن اخبرني الان اين ((آلزفير)) ..
نظر الي ((راتسي)) وقد بدت على ملامح وجهه علامات الحيرة والدهشة وقال بصوت هادئ :
- ألزفير؟! .. لا ادري اين آلزفير.. هل كان معك على ظهر السفينة؟!
فقلت وقلبي يكاد ان ينفجر في صدري :
- كان معي ؟! .. انه هو الذي انقذ حياتي .. انه هو الذي اوقفني على قدمي بعد ان صفعتنا آخر موجة .. انه هو الذي كان ياخذ بيدي الى آخر لحظة ..!!
وارتسم حزن جارف على وجه راتسي وهو يقول بصوت كسير:
- اذن فقد كان ((آلزفر)) معك حتى اخر لحظة .. ياللمسكين .. ان احدا لم يخرج من تلك السفينة حيا سواك .. انت الوحيد الذى خرجت حيا .. !
***
وبعد يومين كاملين ، قذفت الامواج بجثة (( الزفير)) الى ارض الشاطئ .. وحمله الرجال الى حانة (( هواى نوت)) وارقدوه على المائدة الرئيسية .. نفس المائدة التى رقد عليها من قبل ابنه القتيل (( دافيد)) ..
وقف الرجال حوالى نحو دقيقة او دقيقتين .. ثم اخذو ينصرفون واحدا وراء الاخر .. وظل (( راتسى)) واقفا امامى صامتا .. واخيرا بدأ يتكلم بصوت حزين:
_ سأتركك وحدك مع صديقك .. و سأعود اليك مرة ثانية قبل ان يحل الظلام ..
ثم انصرف (( راتسى )) وتركنى وحدى مع صديقى الذى خطفه الموت فى اخر لحظة بعد ان انقذ حياتى ..
وامتلأ قلبى بحزن عميق .. ودارت فى ذهنى مئات الذكريات ..
كان التراب يغطى كل ارجاء الحانة من الداخل .. وكل شيئ ظل كما كان فى ليلة المزاد الكئيبة منذ اكثر من عشر سنوات بل ورأيت الشمع المتجمد الذى سال من الشمعة بعد ان سقط الدبوس .. مازالت هذه الاثار كما هى . . !
ثم جلست على مقعد جوار نار المدفأة .. ووضعت رأسى بين يدى وغرقت فى الاحزان ..
ولا ادرى كم مر من الوقت حين شعرت بحركة خطوات تقترب .. وظننت ان (( راتسى)) قد عاد كما وعدنى .. ولكنى شعرت بيد رقيقة وضعت بحنان فوق ذراعى ، والتفت خلفى .. فاذا بى اجد امامى شابة طويلة فى غاية الجمال والرقة .. كانت (( جريس)) بنفسها .. !
قالت (( جريس)) بصوت رقيق ناعم :
_ جون .. هل نسيتنى ياجون .. هل رأيت نور الشمعة التى كنت اوقظها كل ليلة انتظارا لعودتك .. هل نسيت ان لك اصدقاء هنا .. ؟!
قلت وانا امسك بيديها بين راحتى :
_ لم انسى شيئا يا عزيزتى .. كل الاشياء اذكرها ولم تغب عن ذهنى طوال السنوات الماضية .. وانت عندى اغلى الناس جميعا .. ولكنى لا استطيع الكلام عن الحب .. فأنت الان امرأة محترمة وعظيمة .. وما انا سوى انسان فقير لا يملك شيئا .. واحمل علامة السجناء فوق جبهتى .. !
وقالت (( جريس)) برقة وحنان اكثر :
_ لا تتحدث عما تملك او مالا تملك .. ان المال لا يصنع الرجال .. لقد عدت الان يا جون وانت اكثر ثراء بتجاربك فى الحياة . . !
واستمر حديثنا جوار نار المدفأة لفترة طويلة .. وتعجبت كثيرا من امر تلك الشابة الجميلة العظيمة .. كيف تحتفظ لى بمكان فى قلبها .. وما انا سوى فقير لا يملك شيئا . . ؟!
***
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق