الخميس، 16 أكتوبر 2014

رواية مونفليت - الفصل العشرون

لفصل العشرون

العاصفة..


وفى يوم ما بعد انقضاء عشر سنوات فى هذا السجن اخرجنا الحراس لا لنعمل فى الاشغال الشاقة فى الاماكن المعتادة ، وانما سلمونا لمجموعة من الجنود المدججين بالسلاح ، تولو حراستنا حتى وصلنا الى ميناء (( لاهاى)) .. وهناك افهمونا اننا سنركب سفينة ستأخذنا الى جزيرة (( جاوه)) وهى جزيرة تابعة لهولاندا وتبعد عن اوروبا عدة الالاف من الاميال وتقع وراء الهند .. واخبرونا اننا سنعمل هناك فى المزارع الهولاندية لقصب السكر .. !

وكانت هذه المصيبة الجديدة نهاية محزنة لجميع امالى .. فلن اتمكن ابدا من رؤية (( جريس)) مرة اخرى .. ولن اعود ابدا الى
(( مون فليت)) .. وطوال السنوات العشر الماضية لم افقد الامل وكنت اتصور اننى سأستطيع الهرب يوما ما .. او ربما كانو سيطلقون سراحى بعد مدة لا اعرفها .. ولاكن الان ضاعت كل هذه الامال والتوقعات .. ضاعت الى الابد .. 

وكان (( الزفير)) ايضا ضمن السجناء المرحلين الى جزيرة جاوه .. لقد اصبح الان رجلا عجوزا شاب شعر رأسه وابيض .. اين هو الان من تلك الليلة ذات الاحداث والمغامرات فى (( رأس هور)) .. حيث كان اسود الشعر ومملوءا بالقوة والنشاط والجسارة ..!

ولاحت فى خيالى ايضا تلك الامسية البديعة التى لن انساها ابدا حين جلست مع (( جريس)) فى حديقة بيتها .. استمع الى صوتها العذب الرقيق ، وهى تحثنى على عدم التفكير فى تلك الجوهرة .. وتحذرنى من انها لن تحقق لى سوى الشقاء والتعاسة .. لقد تحققت بالفعل من كل كلمات (( جريس)) وتوقعاتها . . 
***

وصلنا الى (( لاهاى)) .. وصعدنا الى السفينة التى ستقوم بالرحلة الى جاوه .. وشعرت بشيئ من السعادة حين تسللت الى انفى رائحة نسمات البحر مرة اخرى .. ولكن هذه السعادة انقلبت حزنا وغما حين اقلعت السفينة بادئة رحلتها الى تلك البلاد البعيدة ..

ابحرت السفينة لمدة يومين فى بحر هادئ .. وفى اليوم الثالث هبت عاصفة .. 

وكان معنا فى عنبر المسجونين عشرون سجيننا انتابهم الرعب خوفا من تلك العاصفة لانهم لم يركبو البحر من قبل وكانت هذه تجربتهم الاولى .. اما بالنسبة لنا _ انا والزفير_ فقد اعتدنا على مثل هذه العواصف .. 
ولكن عندما بدأت الرياح تشتد وتهب فى عنف واخذت الامواج تضرب السفينة من كل جانب ، قال (( الزفير)) :

اعرف سفننا اكبر من هذه السفينة واقوى منها وكان مصيرها الغرق والتحطم فى مثل هذه العاصفة العاتية .. وانا اعتقد اننا بالقرب من احدى السواحل .. وارجو ان لا نكون قريبين من هذا الشاطئ كى لا تقذف الامواج بالسفينة وتحطمها على صخور الشاطئ .. !

فى تلك اللحظة فتح باب عنبر المساجين .. ولم نر الجنود الذين كانو يحضرون الينا الطعام كالمعتاد .. بل رأينا رجلا من بحارة السفينة قال وهو لقى الينا بمفتاح الباب :

_ ليساعدكم الله تصرفوا بسرعة ..!

واختفى الرجل .. 

وفهم (( الزفير)) ما يعنيه البحارة وقال لبقية السجناء :

_ معنى هذا ان السفينة ستغرق .. وانهم يعطوننا فرصة للنجاة . . !

وقام (( الزفير)) بفك قيوده وجمع قيود السجناء الاخرين .. 

وكنت اول من خرج من العنبر لسطح السفينة .. ولاحظت على الفور ان الجنود والبحارة قد غادروا السفينة فى قوارب النجاة .. ولم يعد باقيا فيها غيرى انا و (( الزفير)) وباقى السجناء .

كانت العاصفة فى عنفوانها .. واشار (( الزفير)) الى شئ بعيد يظهر خلال طبقات الظلام وسيول المطر المنهمر ،
واقترب من اذنى وصاح بأعلى صوته :

نـــــــحن قريــــــــــــــبون مــن الســــاحل!
واخذت للامواج العاتية تدفعنا نحو الشاطئ وصخوره الضخمة . وبدأت أرى تلك الامواج وهى تتكسر على تلك الصخور محدثة اصواتا مرعبة مخيفة .. ومن الواضح اننا كنا فى احد الخلجان .. ورأيت تلا مرتفعا يبدو شامخا من بعيد .. وقد ذكرنى شكله بتل اعرفه ورأيته مرارا من قبل .

واقترب منى (( الزفير )) 
وصاح فى اذنى بصوت مبتهج وينم على الفرحة هذه المرة :

انظر .. انظر ياجون.. !!

ونظرت الى حيث اشار .. وادركت على الفور اننا فى خليج (( مون فليت)) . . ! !

وفى الحال تبددت كل اثار الحزن فى وجه (( الزفير)) وامتلأ قلبه بسعادة غامرة .. وصاح في اذني:

- ان قوة خفية وغريبة اخذت بيدنا واعادتنا الى الوطن.. خير لي الف مرة ان اموت على متن سفينة تحطمت على صخور ((مون فليت)) من قضاء كل عمري سجينا محروما من الحرية .. اسمع يا جون.. اننا سنهلك حتما في ظرف اقل من ساعة .. ومع ذلك لابد ان نبذل كل وسعنا في الكفاح من اجل الحياة ..!
***

اما بقية السجناء الاخرين فقد انخلعت قلوبهم من شدة الرعب والاحساس بالخوف من الموت .. وركع بعضهم امام ((آلزفر)) يستنجدونه بان يقود بهم قارب النجاة الوحيد الباقي فوق ظهر السفينة . ولكن ((آلزفر)) كان يعرف مدى خطورة النزول الى البحر الهائج في مثل هذه العاصفة وفي مثل هذا القارب .. فصاح عاليا ليسمع الرجال صوته :

- يا اصدقائي ان النزول الى البحر الان معناه الموت والهلاك غرقا .. اني اعرف تماما هذا الخليج .. واذا كنتم تريدون النجاة حقا فعليكم البقاء على ظهر السفينة .. سوف نصل الى صخور الشاطئ بعد حوالي نصف ساعة من الان .. وستتحطم السفينة على هذه الصخور.. وعلى كل واحد منا عندئذ ان يكافح من اجل نجاته..!

ولكن السجناء لم يقتنعو بهذه النصيحة وانزلو قارب النجاة الى البحر وركبوه وانطلقو الى مصيرهم المحتوم .. وهكذا اصبحنا وحدنا على السفينة الموشكة على الغرق والتي تتقاذفها الامواج العالية وتدفع بها الى الارتطام بالصخور ..

واقتربنا رويدا من المنطقة الخطرة التي تتكسر عليها امواج البحر العاتية موجة وراء موجة حيث تتخلف عنها ملايين الفقاعات البيضاء وكان مياه البحر تفور بالزبد .. وفي كل مرة تصتدم فيها احدى الامواج العنيفة بصخور الشاطئ يدوي صوت الارتطام الرهيب في انحاء ((مون فليت)) كلها.. وكثيرا ما كنت اسمع مثل هذا الهدير وانا راقد على سريري مستيقظا في بيت خالتي .. واعرف جيدا ما اعتاد اهالي ((مون فليت)) ان يفعلوه في مثل تلك العواصف خصوصا عندما يشاهدون سفينة تلعب بها الامواج قبل ان تحطمها على صخور الخليج ..

في تلك اللحظة تخيلت تماما ما يفعله اهالي ((مون فليت)) الان وهم يرون سفينتنا موشكة على الغرق .. تخيلت راتسي ومعه مجموعة من رجال القرية يحملون المصابيح ويراقبون السفينة والرياح تحطم صواريها وتمزق اشرعتها .. ويشعر جميع الرجال بالحزن والاسى وهم يفكرون في كيفية تقديم مساعدة لانقاذ الاحياء الراكبين فوق ظهر السفينة .. وسمعت صوت ((آلزفر))يناديني:

- جون .. انظر..!

وخلال اطباق الظلام وسيول المطر رايت نقطة من الضوء تلمع مثل الجوهرة .. وقال ((آلزفر)) :

- انها (( منارة ماسكيو)) .. ألا تذكرها ..؟!

آه.. ها هي ((جريس)) مازالت وفية بالعهد الذي قطعته على نفسها .. لقد وعدتني بانها ستشعل شمعة خلف نافذتها كل ليلة حتى يهتدي بها بحارة السفن العابرة الى ان اعود اليها مرة اخرى .. انها ما زالت تنتظرني .. وهأنذا عائد اليها الان .. ولا يفصلني عنها سوى هذه الامواج العاتية التي تحمل الموت بين طياتها ..

ولاحظت ان عدد المصابيح التي كان يحملها اهالي (( مون فليت )) قد ازداد.. ولا شك انهم يراقبون السفينة التي تتحطم قطعة قطعة في مهب الريح والامواج.. وهم لا يعرفون طبعا ان هذه السفينة لا تحمل على ظهرها سوى اثنين من الرجال .. وان هذين الرجلين من اهالي ((مون فليت)) ..

وبدات السفينة تقترب اكثر واكثر من ارض الشاطئ لتلقى نهايتها المحتومة .. واشتد عويل الرياح وصخب الموج .. وصاح ((آلزفر)) :

- لقد اقتربت النهاية .. وعلينا ان نلقي انفسنا الى البحر مع قدوم الموجة التالية .. والآن .. ها هي موجة قادمة .. اقفز يا جون .. اقفز معي..!

وقفزنا ..!
وسقطت على يدي وركبتي في منطقة لا يزيد عمقها على متر واحد .. ووقفت على قدمي .. ولكن المياه الصاخبة غلبتني وانكفيت على وجهي .. وحاولت الوقوف ثانية .. ورايت الرجال الواقفين على الشاطئ وقد تقدمو الى الخوض في مياه البحر وكل منهم يمسك بيد الاخر .. اهم الان يتقدمون لانقاذنا والاخذ بايدينا .. ولكني انكفيت مرة ومرة .. وانهضني ((آلزفير)) من عثرتي واوقفني ثانية .. ولم اعد ارى شيئا.. ولكني احسست بيد قوية تمسك بيدي ..!
***

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق