الفصل الخامس عشر
سأنتظرك حتى تعود
بقيت لدينا ليلتان كاملتان نقضيهما فى هذا المخبأ قبل ان نبدأ رحلتنا الى (( كاريسبروك)) .. كنت اخشى ان تمر هاتان الليلتان دون ان اتمكن من الذهاب الى (( جريس)) لرؤيتها وتوديعها ..وترددت كثيرا فى اختيار الكيفية التى ابلغ بها (( الزفير)) برغبتى هذه ..
وبينما كنت جالسا مع (( الزفير)) عند فتحة الكهف التى تطل على البحر ونرقب اخر شعاعات من نور الشمس الغاربة ، رأيت ان الوقت المناسب قد حان لاستئذان (( الزفير)) ليسمح لى بهذه الزيارة . وبدأت عرض الموضوع بكلمات هادئة :
_ ياعزيزى (( الزفير)) .. انى اشكر لك اهتمامك بى طوال الفترة الماضية .. لقد انقذت حياتى من موت محقق .. وعالجت قدمى الجريحة الى ان شفيت .. ومنذ حوالى شهرين او اكثر كنت ملازما لهذا الكهف لا ابرحه .. لا ارى فيه شيئا سوىجداران صخرية ..
وانا اريد ان اتمشى لامرن قدمى على حسن السير بطريقة طبيعية .. اريد ان امشى فوق ارض عشبية ..
قال (( الزفير))
_ لاتقل انى انقذت حياتك .. انى على العكس اشعر بأنى السبب فى كل ما تتعرض له الان من متاعب واخطار .. ولو لم افعل ذلك لكنت الان راقدا فوق سرير نظيف فى مون فليت بدلا من رقادك على فراش رملى على ارض الكهف الصخرية . . انى ذاهب الليلة الى بيت يقع فى مكان قريب من هنا .. لان (( راتسى )) قد ترك لنا شيئا فى ذلك البيت .. فتعال معى فى هذا المشوار .. لتتمشى وتتمتع بنسمات الليل ..!
فقلت بلا تردد :
_ لا يا (( الزفير)) .. انى اريد ان اذهب ابعد من ذلك .. انت تعلم انى ولدت فى (( مون فليت)) .. وعشت فيها طوال حياتى .. واحببت فيها كل شيئ .. اشجارها .. ونهرها .. وكل حجر فيها .. وانا اريد ان القى اخر نظرة على (( مون فليت )) قبل ان اغادرها الى الابد .. وارجو ان تسمح لى بأن اقوم بهذه الزيارة وسوف اعود اليك الليلة التالية . .
نظر (( الزفير)) نحوى دون ان يتكلم . . وكنت على يقين من انه يعرف نواياى وما اقصده من زيارة (( مون فليت)) .. لذلك فقد خفضت نظرى الى الارض .. وبعد فترة قصيرة تكلم (( الزفير)) دون غضب :
_ جون .. انى اعرف ان الرجال قد يعرضون انفسهم للمخاطر لاسباب مختلفة .. فى سبيل الذهب مثلا .. او فى سبيل الحب .. او بغرض الانتقام .. ولكنى لا اعرف حتى الان رجالا يعرضون انفسهم للخطر لكى يرو شجرة .. او نهارا .. او حجرا ..
ان الناس عندما يقولون انهم يحبو مكان معينا او قرية او مدينة معينة فانهم لا يقصدون انهم يحبون هذه القرية او المدينة كأشياء جامدة .. ولكنهم يحبون شخصا معيننا يعيش هناك .. ولا اعتقد ان هذا الشخص هو خالتك (( مس ارنولد)) .. فهى فهل تريد ان تذهب الى(( مون فليت لكى تراها)) . . ؟!
وطبعا .. حكيت له كل شئ بصدق .. واندهشت كثيرا عندما قال (( الزفير)) :
_ اعرف ان هذه الفتاة جميلة ذات قلب طيب .. وكان ابوها (( ماسيكو)) لا يستحقها . . ومع ذلك فأنا سعيد الان لانى لم اكن قاتله .. اذهب ياجون وتمتع برؤية النهر والاشجار والاحجار كما تقول .. وسوف اصاحبك فى بعض الطريق الى هناك .. وسوف انتظرك فى الكهف حتى تعود فى الليلة القادمة .. واذا لمتحضر حتى منتصف الليل ، فسوف اعرف انهم قبضو عليك .. وسوف احضر لمساعدتك بكل وسيلة .
وصافحته بحرارة وشكرت له موقفه . .
وهكذا بدأنا رحلتنا بعد ان حل الظلام .. واخذنا معنا خبزا وبعض اللحوم ليكون طعاما لى اثناء رحلتى الى (( مون فليت )) والعودة .. وعندما كنا نجتاز الممر الضيق كان (( الزفير)) يرشدنى ويأخذ بيدى خطوة خطوة الى ان خرجنا الى الارض البراح الواسعة .. وكانت السماء صافية تسطع فيها النجوم .. وتهب علينا نسمات المساء الرقيقة الندية ..
وواصلنا السير فى صمت متمتعين بجمال الليل حتى وصلنا الى البيت الذى ترك فيه (( راتسى )) شيئا (( لازفير)) .. ثم صاحبنى (( الزفير)) حتى وصلنا الى منطقة (( باربيك )) . . وهناك توقف (( الزفير)) عن السير ، وقال وهو يعطينى المسدس الذى كان مملوكا من قبل (( ماسيكو)) :
_ خذ هذا المسدس يا جون .. ولا تستعمله الا اذا واجهت خطر جسيما لا يمكن ان تتجنبه بطريقة اخرى .. واذا اضطررت الى استخدامه فاطلق النار على الاجزاء السفلية من جسم عدوك . . !
***
وعندما بدأت اشعة الشمس تطل على السماء من افق الشرق معلنة تباشير الصباح . . كنت قد وصلت الى التل الذى يطل على ((مون فليت )) كلها .. ومن هذا التل رأيت كل بيوت القرية .. ورأيت حانة (( هواى نوت)) .. ورأيت النهر والبحر .. وكانت هذه المناظر كلها تسعدنى وتحزننى فى نفس الوقت ..
وعندما اشتدت حرارة الشمس .. واصلت السير الى غابة (( مانور )) وذهبت مباشرة الى مكانى المعتاد الذى كنت اجلس فيه غى الماضى لآرى كل شيئ ببيت (( ماسيكو)) دون ان يرانى احد .. وحيث كنت ارقب (( جريس )) حين كانت تخرج الى الحديقة .. وهناك جلست وتناولت قطعة من الخبز وانا اراقب باب البيت .. واخذت افكر .. هل اذهب واقرع جرس الباب .. واخذت افكر .. هل اذهب واقرع جرس الباب .. او ربما يكون هناك احد يتعرف على ويكشف امرى .. والحقيقة انه بالرغم من تنكرى فى ثياب الفلاحين التى ارتديها الا انى كنت اخاف بالفعل من مقابلة اى شخص لا ينطلى عليه التنكر .. وعلى اية حال ، فقد عزمت امرى .. ومشيت فى الطريق المؤدى الى باب البيت ..
وقرعت جرس الباب ..
وسمعت وقع خطوات هينة رقيقة تتقدم نحو الباب من الداخل .. ثم سمعت صوت (( جريس)) العذب الجميل :
_ من هناك . . ؟!
وكدت اصيح قائلا : انا جون ترنشارد يا جريس ..
ولكنى تذكرت ان من المحتمل ان يكون معها احد فى البيت فيعرفنى .. لذلك فقد قلت وانا اغير نبرات صوتى :
_ انا صبى مسكين .. تهت فى الطريق ولا اعرف اين انا ..!
وعندئذ فتحت (( جريس )) الباب مواربا وسألتنى عن الجهة التى كنت اقصدها .. ونظرت الى دون ان يبدو عليها انها تعرفنى .. فواصلت كلامى بنفس الطريقة :
_ انى صبى فلاح . . جئت سيرا على قدمى من بلدة (( باربيك)) قاصدا حانة اسمها (( هواى نوت)) يديرها شخصا اسمه
(( الزفير بلوك)) .. !
وعندما سمعت (( جريس )) هذا الكلام اندهشت .. ونظرت الى مرة اخرى ولكنها لم تعرفنى .. وقالت اخيرا :
_ اذا صعدت معى هذه الدرجات القليلة ، استطيع ان اريك موقع هذه الحانة .. زلكن يبدو انك لا تعرف ان حانة (( هواى نوت)) مغلقة منذ اكثر من شهرين .. وخرجت (( جريس)) من الباب .. وسارت عدة خطوات ، ثم صعدت بضع درجات وانا اتبعها ..
وعندما اصبحنا وحدنا فى هذا المكان البعيد قليلا عن باب البيت .. قلت لها بصوت منخفض :
_ (( جريس)) .. انا جون ترنشارد .. جئت متخفيا حتى اراك قبل ان اغادر (( مون فليت)) .. ولدى اشياء كثيرة اريد ان اخبرك بها .. هل هناك احد فى البيت غيرك .. ؟!
كان من المتوقع ان اية فتاة يمكن ان تصرخ اذا واجهت مثل هذا الموقف .. ولكن (( جريس)) لم تفعل .. بل قالت بهدوء:
_ هيا نعود الى البيت .. انا هناك وحدى !
ودخلنا الى البيت ، وما ان اغلقنا الباب من خلفنا حتى وضع كل منا يديه بيد الاخر .. وجلسنا متقابلين ينظر كل منا الى الاخر .. وكانت لحظات سعيدة حلوة تبدو كما لو كانت حلما جميلا فى منام مريح ..
وقالت (( جريس)) اخيرا:
جون.. لقد كبرت .. لقد اصبحت رجلا خلال هذين الشهرين الماضيين !
ولاحظت ان (( جريس)) قد كبرت هى الاخرى خلال نفس الفترة بسبب الهموم والمتاعب التى عاقبت موت ابيها .. وفقد وجهها بعض البريق الساحر الاخاذ الذى كان يشع من جبنتيها ووجنتيها ..
وضحكت (( جريس)) كثيرا من ملابس الفلاحين الفقراء التى كنت متنكرا فيها .. ومن الصبغة البنية التى دهنت بها وجهى ويدى ..
ثم ذهبنا الى الحديقة ، وجلسنا فى ركن وراء شجرتين ضخمتين .. وقالت ((جريس)) ان باستطاعتى ان اتسلق احدة هاتين الشجرتين بسهولة واقفز خارج سور البيت اذا ظهر احد او رأينا خطر يداهمنا .. واخبرت (( جريس )) بحقيقة ما خدث لابيها .. وكانت تبكى وانا اشرح لها التفاصيل .. الى ان انتهيت من الحكاية ، وجففت (( جريس )) دموعها .. وسألتنى عن الاصابة بقدمى وهل شفيت منها تماما .. فأجبتها بالايجاب ورويت لها الجهد الذى بذلك (( الزفير)) فى علاجى .. ثم اخبرتها عن الورقة التى عثرت عليها بداخل العلبة الفضية التى كانت مملوكة فيما مضى لذى اللحية السوداء .. وأريتها العلبة الفضية الجميلة التى مازلت محتفظا بها .. وشرحت لها كيف اكتشف سر الكلمات المكتوبة بالحروف الكبيرة وانى ذاهب للبحث عن الجوهرة الثمينة ثم اصبح من اغنى الاغنياء فى هذه البلاد ..
وعندئذ قالت (( جريس)):
- آعه جون .. لا تفكر كثيرا في امر تلك الجوهرة ولا تحاول الحصول عليها .. لقد كانت مملوكة لرجل سيئ ولن يكون ورائها شئ سوى التعاسة وحتى لو عثرت عليها يا جون فبعها وانفق ثمنها لمساعدة الفقراء .. والا حلت لك التعاسة انت ايضا..!
وضحكن مما قالت ((جريس)) .. ولكنني لم اخبرها باني اريد ان اكون غنيا لسبب واحد ..هو ان اتزوجها .
وتواصلت بيننا احاديث طويلة طيبة .. واحضرت لي ((جريس)) خبزا ولحما ساخنا وبعض الفواكه من داخل البيت .. وطلبت مني ان استريح وانام بعض الوقت بعد ان اخبرتها اني لم انم الليلة الماضية لان الرحلة الطويلة استغرقت طول الليل .. وتركتني وعادت الى البيت ... واستغرقت في نوم جميل هانئ في ذلك الركن الهادئ خلف الشجرتين ..
وعندما استيقظت وجدت ((جريس)) جالسة الى جواري وقد احضرت معها بعض الطعام وبعض اللبن لاخذه معي في رحلةالعودة ..
كانت النسمات قد اصبحت باردة على نحو لطيف .. وكانت الشمس قد اوشكت على المغيب وراء خط الافق وبدات تباشير المساء تغطي اضوراء الشفق .. وترخي استار الظلام رويدا رويدا ... ووقفنا متقابلين وكل منا يمسك بيدي الاخر .. تماما مثلما فعلنا حين التيقينا في الصباح .. وقالت ((جريس)) بصوت جميل عذب:
- جون .. عندما تتجول داخل البحر .. او عندما تكون قادما الى ((مون فليت)) من جهة البحر .. وهذا ما ارجو حدوثه في يوم ما .. سترى شمعة مضاءة خلف نافذتي .. ساحرص على اضائتها كل ليلة حتى تعود .. تماما كما كنت افعل في الماضي .. وعندما ترى نور الشمعة في نافذتي .. اعرف جيدا ان جريس مازالت تذكرك وتنتظرك .. اما اذا جئت يوما ولم ترى نور الشمعة فاعلم ان ((جريس)) قد ماتت ..!
***
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق