الفصل الثامن عشر
ضياع الجوهرة
وانزلتناا لسفينة فى ميناء (( لاهاى)) بهولاندا .. وتعتبر هذه المدينة افضل مكان فى العالم لتجارة الماس .. وكان (( الزفير)) يعرف بعض اللغة الهولندية وذهبنا الى على الفور لنبحث عن تاجر ماس مناسب يمكن ان نبيعه جوهرتنا ..
وعلمنا ان ((ألدوبراند)) هو اغنى تاجر الماس واكثرهم شهرة..
وقبل غروب الشمس بنحو ساعة ذهبنا الى بيت هذا التاجر .. وكان بيتا غير مرتفع يطل على الطريق الرئيسيس وجدرانه مطلية باللون الابيض بينما طليت نوافذه باللون الاخضر .. وكانت هناك حديقة واسعة ملحقة بخلف البيت .. وقرعنا جرس الباب ففتح لنا خادم طويل الجسم فاخبرناه باننا نريد ان نبيع جوهرة..
دعانا الخادم الى الدخول .. وذهب ليخبر سيده بهذا الامر .. وبعد عدة دقائق جاء التاجر((الدوبراند)) لمقابلتنا .. وكان ضئيل الجسم ويبلغ عمره حوالي سبعين سنة .. وقال لنا بصوت هادئ :
- ماذا يا ابنائي .. لقد سمعت ان لديكما جوهرة تريدان بيعها .. انا لا اتعامل في الجواهر العادية .. فلا ترياني اياها الا اذا كانت تستحق ..
في تلك اللحظة كنت امسك بالجوهرة بيدي فقدمتها اليه .. ورايت ملامح الدهشة تبدو واضحة في وجهه حين امسك بالجوهرة وراى حجمها .. وامسم التاجر بالجوهرة بين يديه ليفحصها عن قرب .. وتغيرت نبرات صوته وهو يقول لنا هذه المرة :
- لا يوجد هنا ضوء كاف .. تعاليا معي..!
وتبعناه الى غرفة اخرى .. ومن نافذة هذه الغرفة تظهر الحديقة الملحقة بالبيت وقد غمرتها الاشعة الحمراء للشمس الغاربة .. وجلس ((الدوبراند)) الى مائدة في وسط الغرفة وامسك الماسة بين اطراف اصابعه وعرضها للضوء واخذ يتفحصها بكل عناية واهتمام .. ولم استرح لهذا الرجل الذي التفت الي فجاة وسالني :
- ما اسمك ايها الصبي .. ومن اين جئت..؟!
وفوجئت بالسؤال فاجبته بغباء :
- اسمي جون ترنشارد ...وجئت من مون فليت ..
وزغدني ((آلزفير)) ليحذرني ولكن الوقت كان قد فات ولم ينفع هذا التحذير .. ولشدة دهشتي لاحظت ان التاجر قد دون اسمي في دفتر كان موضوعا على المائدة .
وقد تبدو كتابة اسمي في هذا الدفتر كشئ طبيعي ومتوقع بالنسبة لاي تاجر مجوهرات .. ولكن لا ادري لماذا اغضبني هذا التصرف .. بالرغم من ان الاحداث قد اثبتت فيما بعد ان قيام هذا التاجر بكتابة اسمي وموطني في دفتره كان اهم شئ حدث في حياتي كلها ..!
ونظر الي التاجر بعد ان كتب ما كتب وقال :
- هاه .. من ((مون فليت)) .. ولكن قل لي كيف حصلت على هذه الجوهرة ..؟!
اجاب ((آلزفير)) على هذا السؤال بسرعة :
- اننا لم نحضر الى هنا لنجيب على اسئلتك .. بل لنعرف اذا كنت ترغب في شراء هذه الجوهرة ام لا .. وما هو الثمن الذي يمكنك ان تدفعه .. ويكفي ان تعرف اننا بحارة انجليز .. وان هذه الجوهرة ملكنا واننا نريد بيعها ..!
قال التاجر العجوز:
- نعم نعم .. اعرف ذلك .. ولكن لاني لا اعرف المصدر الحقيقي لهذه الجوهرة .. فان من اللازم ان افحصها جيدا حتى اتاكد من انها جوهرة حقيقية وليست مزيفة..
ثم احضر زجاجة صغيرة بها سائل اخضر ووضع نقطة منه فوق الجوهرة ثم حكها في حجر اسود .. وكنت ارقب ملامح وجهه وهو يقوم بهذا الفحص ..ولكني وجدت وجهه جامدا وكانه قد من حجر .. واخيرا صدمنا بقوله :
- جون ... يا بني .. هذه الجوهرة ليست ماسة حقيقية .. انها مصنوعة من الزجاج .. ولكنها مصنوعة جيدا وبدقة شديدة .. وهي مع ذلك احسن قطعة من الزجاج رايتها في حياتي .. ولكنها ليست من الماس !
اظلمت الدنيا في عيني وكدت اسقط على الارض مغشيا علي .. لقد تبددت في لحظة كل احلام الثراء .. لقد ذهبت كل جهودنا والمخاطر التي واجهناها ادراج الريح .. وحزنت حزنا لم اشعر بمثله طوال حياتي .. وقال التاجر العجوز مشفقا وكانه يواسينا :
- لا يا جون .. لا يا بني .. لا تكن تعيسا الى هذا الحد .. انا لم اقل انها لا تساوي شيئا .. فالبرغم من انها مصنوعة من الزجاج الا انها مصنوعة بطريقة فنية جيدة .. وسوف اعطيكما عشرة قطع من النقود الفضية ثمنا لها ..!
وهنا قال ((آلزفير)) غاضبا:
- لا .. اننا لم نحضر الى هنا لنحصل على نقودك الفضية .. نحن في غنى عنها ويمكنك الاحتفاظ بها ..!
وبغضب شديد التقط ((آلزفير)) الجوهرة من يد التاجر وقذف بها من النافذة فصاح التاجر ((الدوبراند))وهو يقفز فوق مقعده :
- هل انت مجنون ايها الرجل ؟! .. لماذا فعلت هذا .... لماذا ..؟!!
***
حين القى ((آلزفير)) الجوهرة من النافذة .. رايتها تطير في الهواء واستقرت على ارض الحديقة جوار زهرة حمراء كبيرة .. وعندما خرجنا يائسين من بيت التاجر سرنا صامتين في الشارع عائدين الى الحانة التي كنا نقيم فيها دون ان نتبادل كلمة واحدة.. ووصلنا الى الحانة اخيرا .. وجلسنا لنتناول وجبة العشاء ..
وبطبيعة الحال كان ذهني مشغولا بما حدث .. واخ>ت اقلب الامر من جميع جوانبه .. وفجأة توقفت عن تناول الطعام ، وفزعت واقفا وقلت :
_ الزفير .. اننا بلهاء .. ان الجوهرة ماسة حقيقية .. لقد استطاع التاجر ان يغشنا ولم يقل لنا الحقيقة !
نظر الى (( الزفير)) فى صمت للحظة وجيزة .. ثم قال فى هدوء وحيرة:
_ قد تكون على صواب ياجون .. ولكننا القيناها من النافذة ولم نستطيع العثور عليها ..
قلت بشئ من الارتياح :
_ ولكننى رأيتها وهى تسقط فى الحديقة .. واعرف اين سقطت بالزبط .. !
وتساءل (( الزفير)):
_ ولكن الا تظن ان التاجر (( الدبراند)) قد رأها وهى تسقط ويعرف مكانها .. ؟!
وذكرنى هذا السؤال بأنى قد رأيت التاجر وقد جحظت عيناه وهو يتتبع مسار الجوهرة حين القاها (( الزفير)) من النافذة .. ولكنى لا ادرى ما اذا كان يعرف اين سقطت بالزبط ام لا .. ولذلك فقد قلت :
_ لا ادرى يا (( الزفير)) .. دعنا نذهب لنرى .. انا متأكد ان الجوهرة قد سقطت بجوار زهرة حمراء كبيرة ذات ساق طويلة .. هيا نذهب فسوف نجدها هناك !
وظل (( الزفير)) صامتا نحو دقيقة ثم قال :
_ انا محتار فعلا .. ولكن يبدو انك على صواب يا جون .. واعتقد الان ان الجوهرة ماسة حقيقية .
بل وكنت اعرف انها ماسة حقيقية حين القيتها من النافذة .. وانا على يقين بأننا سنعيش سعداء بدونها .. فمنذ ان سمعنا عنها واكتشفنا سر مخبئها ونحن لم نحصل على شئ سوى التعاسة .. وها نحن الان بعيدين عن وطننا .. وهناك رجلان قد قتلا .. دع هذه الجوهرة تذهب الى حال سبيلها .. دعها حيث هى واينما تكون .. لا داعى للبحث عنها حتى نتحاشا التعاسة التى تسببها ..!
ولكنى لم اقتنع .. واصررت على الذهاب الى الحديقة لاستعادة الجوهرة .. ولم يجد (( الزفير)) مناصا سوى ان يصاحبنى ويذهب معى . .!
***
كان ظلام الليل قد حل حين كنا نتسلق السور الحجرى الذى يحيط بحديقة بيت التاجر (( الدوبراند)) .. وما ان اصبحنا فى ارض الحديقة حتى تقدمت الى مكان الزهرة الحمراء واخذت اتحسس الارض بيدى .. تحسستها قطعة قطعة ولكنى لم اعثر على شئ .. وقلت ل(( الزفير)) :
_ لقد اختفت الجوهرة .. لا بد ان (( الدبراند)) قد سبقنا فى الوصول اليها .. لقد اخها هذا التاجر الغشاش !
ونظرت تجاه بيت التاجر ، فرأيت نورا مضاء خلف احدى النوافذ .. فقتربت من النافذة واقترب معى (( الزفير)) .. وشاهدنا التاجر وهو جالس الى مائدة وامامه الجوهرة الثمينة .. ماستنا التى فقدناها وحصل هو عليها دون حق .. انها اذن ماسة حقيقية .. وكان التاجر قد وضعها بجانب مجموعة اخرى من الماس . . ولكنها كانت تبدو قطع صغيرة تافهة بجانب ماستنها العملاقة .. وطغى جمال ماستنا على جميع قطع الماس الاخرى .. وخيل لى ان ماستنا العظيمة تنادى بصوت جميل اسمعه فى اعماقى : الست اجمل ماساة العالم .. الست ملكة على جميع الماساة الاخرى.. الست مملوكة لك انت وحدك .. هيا تقدم واتستعدنى من بين يدي هذا التاجر!!
ولم افق من هذا الخيال الا عندما لمسنى (( الزفير)) وهمس فى اذنى :
_ هيا يا (( جون)) .. دعنا نعود.. اننا لا نريد هذه الجوهرة التى لن تجلب لنا سوى التعاسة والشقاء .. هيا نعود يا (( جون )) .. الا تسمعنى .. ؟ !
كنت اسمعه فعلا ولكنى لم اقتنع بأى كلمة .. ولم يكن يدور فى ذهنى اى شيئ سوى ضرورة استعادة الجوهرة .. ووجدت نفسى اصعد الى حافة النافذة بكل سرعة ، واقفز الى داخل الحجرة التى كان يجلس بها التاجر ، وتقدمت فى لمح البصر الى النافذة وامسكت الجوهرة بيدى ..
ولكن فى هذه اللحظة بالظبط هب التاجر واقفا واخذ يصيح مذعورا :
_ النجدة .. النجدة .. لصوص .. لصوص.. . !
وفى الحال دخل ستة من الخدم .. واحطو بنا .. وقبطو علينا .. !
***
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق