الثلاثاء، 14 أكتوبر 2014

رواية مونفليت - الفصل الحادي عشر

الفصل الحادى عشر 

مصرع ماسيكو 


فى الحقيقة انى كنت انوى اللحاق بالرجال ، حتى لا ابقى بهذا المكان وارى المنظر الذى اتوقع حدوثه .
وقد انصرفت بالفعل ، ولكن (( الزفير)) نادانى :

_ انتظر ياجون .. لا تذهب .. فقد تكون مفيدا 
وطبعا توقفت وانتظرت .. وأخذت اخمن كيف سأكون مفيدا .. واية فائدة ترتجى منى فى مثل هذا الموقف .

كان (( ماسيكو)) جالسا فوق الرمال ، وظهره مسنود على صخرة ، وكتوف اليدين والقدمين باحكام ، كما ان يديه كانتا موثوقتين خلف ظهره .. ونظرات عينيه موجهه فى ذلة نحو الارض .. اما وجهه فكان ناصع البياض من شدة الشحوب..

وكان (( الزفير )) واقفا قبالته وهو يحمل مصباحا خافت الضوء وينظر الية فى احتقار شديد .. وكانت تصل الى اسماعنا فى البداية اصوات وقع اقدام الخيول المحملة بالبضائع الثقيلة وهى تدب فوق صخور الطريق الصاعد .. الا ان هذه الاصوات كانت تخفت بالتدريج الى ان تلاشت تماما بعد ان انحنى الطريق تجاه البحر .. وحل الصمت الذى يخفى وراءه ما يخفى .. وظل (( الزفير)) موجها نظراته نحو (( ماسيكو)) الذى يحاول التظاهر بأنه شجاع وقوى 
وقال :


_ انا موظف لخدمة القانون .. واذا لم تفك قيودى وتطلق سراحى فسوف اطالب بشنقك !

كانت كلماته شجاعة فعلا .. ولكنها شجاعة غير حقيقية لان صوته كان ضعيفا ومرتعشا ..


واجاب (( الزفير)) بثبات كما لو كان قاضيا يحاكم سجينا :


_ لا تحدثنى عن الشنق والمشنوقين .. انك بعد الان لن تستطيع ان تشنق احدا .. ولن ترى بعد الان انسانا مشنوقا .. لقد كنت ترقب الشمعة التى رشق فيها الدبوس فى حانة (( هواى نوت)) .. وانتظرت حتى اوشك الدبوس على السقوط وضربت ضربتك واخذت الحانة منى وطردتنى من بيتى .. وسوف ترقب فى هذا الصباح شمعة اخرى فيها دبوس مرشوق..


وعندما يستقط الدبوس فسوف اصوب مسدسك هذا نحو رأسك .. واقتلك كما لو كنت اتخلص من وحش كاسر !


وامسك (( الزفير)) بشمعة ، ورشق فيها دبوس على بعد بوصة من قمتها ، واوقفها على الارض اما (( ماسيكو)) .. والحقيقة انى بدأت اشعر بالخوف والاضطراب .. فأنا لا احب (( ماسيكو )) .. ولو سألونى منذ ساعة فسوف اصيح باعلى صوتى : اقتلوه .. واطلقو عليه النار !.. ولاكن الان اصلى من اجله واتمنى لو انه يتمكن من الفرار والافلات من هذا المصير المتعس .


وبدأت الشعاعات الاولى من نور الصباح تتسلل الى صفحة السماء من جهة الشرق.. واختفت النجوم تماما .. ولم يظهر من الالوان سوى اللون الرمادى الذى ساد على كل شئ ... فالسماء رمادية .. والصخور رمادية .. والاشجار رمادية .. اما اكثر الاشياء رمادية فقد كان وجه (( ماسيكو)) الذى تبلدت ملامحه وظهر خطوط سوداء نحن عينيه وتجمدت بعض قطرات من الدم على جانب وجهه 

اذ يبدو انه جرح اثناء القبض عليه .

وظل ((ماسكيو)) مرخيا نظره الى الارض .. ثم رفع عينيه وصوبها نحوي في نظرات متوسلة .. نظرات تدل على اعجز

والاستسلام ..تماما مثل نظرات حيوان موشك على الذبح .. وحتى تلك اللحظة لم اكن ارى في ماسكيو اية ملامح من ابنته ((جريس)) كما لم اكن ارى في الابنة اية ملامح من ابيها .. ولكن في تلك اللحظة بالذات احسسست بان ((جريس)) نفسها تنظر الي بعيون ابيها .. وزاد هذا الاحساس من اضطرابي وجعلني لا ارغب في مشاهدة ما سوف يحدث ولا استطيع ان اتحمله ..

وساعد الهواء على سرعة ذوبان الشمعة .. واخذت الشعلة تقترب من المكان الذي رشق فيه الدبوس .. واخذت النهاية تقترب هي الاخرى مع ذوبان الشمعة .. وكان ((ماسكيو)) مركزا نظرات عينيه الان وهو يشعر بان حياته تذوب بذوبا ن الشمعة قطرة قطرة .. واخيرا بدأ(( ماسكيو)) يتكلم بصوت مستعطف لا يدعي الشجاعة :

- ارجوك لا تقتلني يا مستر ((آلزفربلوك)) .. ان لدي ابنة وحيدة ليس لها عائل سواي .. فهل تحرم هذه الابنة من ابيها وهو الشخص الوحيد الذي يرعاها ويحميها ؟.. انظر الى حال تلك المسكينة حين يحملون اليها جثة ابيها غارقة في الدماء ..!

ورد ((آلزفر)) على هذا الاستعطاف قائلا:

- وانا ايضا كان لي ابن وحيد .. وقد حملو الي جثته غارقة في الدماء .. فمن ذا الذي قتله ؟.. وباي مسدس قتل ؟ .. الا تعرف؟!.. انه نفس المسدس الذي ساستعمله الان في قصف حياتك .. هيا اقم صلاتك وتقرب الى الله .. لم يعد امامك سوى وقت قصير تؤدي فيه صلواتك ..

وانحنى ((آلزفر)) ..والتقط المسدس الملقى على الارض واعده الى الضرب .. وادار ظهره الى ((ماسكيو)) واخذ يتمشى امامه جيئة وذهابا .. وكان من الواضح ان كلمات الاستعطاف الذي قالها ماسكيو قد جعلت ((آلزفر)) اكثر غضبا .. لانها ذكرته بمقتل ابنه ((دافيد)) .. ولكن هذه الكلمات نفسها لمست شغاف قلبي .. وشجعتني على ان اتقدم الى ((آلزفر)) وارجوه ان يصرف النظر عنقتل هذا الرجل .. وتركني ((آلزفر)) حتى اكملت

كلامي ثم قال :
- ان لك قلبا طيبا يا بني ...وهذا ما جعلني احبك.. ربما كنت مصرا على قتل ماسكيو لاني غاضبا عليه .. ولكني الان في موقف حرج للغاية .. ولا اتصور كيف اقدم على قتل رجل مكتوف اليدين والقدمين ومستسلم على هذا النحو حتى ولو كان هذا الرجل قد قتل عشرين من ابنائي .. ولكنك تعلم اان الرجال تركوه لي لكي انتقم منه بنفسي .. وكانو سيقومون بقتله لولا تدخلي .. والان اذا اطلقت سراحه وتركته الى حال سبيله فسوف يقوم هو بشنق الرجال جميعا .. هل يرضيك هذا ؟.. ليس امامي سوى ان اقتله !

وبالرغم من ذلك فقد واصلت رجائي ((لآلزفر)) وانا امسك ذراعيه بين يدي واستعطفه لكي ينقذ حياة ((ماسكيو)) .. ولكن يبدو ان كل الرجاء كان بلا جدوى ..


اما ((ماسكيو)) فقد ظلت نظراته مشتتة بين الشمعة وبين اطراف الشمس التي بدات في الظهور من ناحية الشرق .. وبدا راس الدبوس يتحرك ببطء مع القطرات الذائبة التي اخذت تهبط به رويدا رويدا .. لقد خانت اذا لحظة النهاية واخذ ((ماسكيو)) يبكي مستعطفا لانقاذ حياته .. عرض الف جنيه ..ثم خمسة آلاف ..ثم عشرة آلاف كفدية لانقاذ حياته ..ووعد باعادة حانة ((هواي نوت)) الى ((آلزفر))..با وعرض ان يغادر ((مون فليت)) بصفة نهائية ولن يعود اليها ابدا .. وكانت الدموع تنهمر من عينيه وتسيل على خديه مع كل كلمة يقولها ..


ولم يستجب ((آلزفر)) الى اي عرض من تلك العروض ولم يلن قلبه امام كل هذا الاستعطاف .. بل امسك بالمسدس وجهزه لاطلاق النار .. فاغلقت عيني ووضعت اصابعي داخل اذني حتى لا اسمع ولا ارى ما سوف يحدث عندما يسقط الدبوس تماما عن جسم الشمعة .. وبعد لحظة فتحت احدى عينى ورأيت الدبوس وهو يسقط على الارض .. ورأيت (( الزفير)) وهو يصوب فوهة المسدس الى رأس (( ماسيكو)) .. وفى لمح البصر انقضضت على (( الزفير)) لامنعه من القتل .. واشتبكت معه وانا احاول ابعاد المسدس بطريقة لا اعرفها ، وذوى صوت الطلقة فى ارجاء الشاطئ .. وعندئذ توقف الاشتباك ونظرنا الى ناحية (( ماسيكو)) ..

فلاحظت ان شيئا من السرور قد غمر ملامح وجهه ..
وانه يتجه بنظرات عينيه الى عالى قمة الطريق الصاعد .. لعله كان يشكر السماء على تدخلها لانقاذه فى اخر لحظة !

***

ولكن الذى حدث كان شيئا مختلفا تماما .. فبمجرد دوى صوت طلقة المسدس .. سمعنا اصوات العديد من الرجال الذين كانو ينادون بعضهم بعضا .. ونظرنا نحو قمة الطريق الصاعد فرأينا نحو عشرين جنديا من جنود الملك يحاصروننا من فوق القمة ويصوبون اسلحتهم نحونا ..

لقد فهمنا الان ما حدث بالظبط .. فقد اتفق (( ماسيكو)) مع هؤولاء الجنود ان يهاجمونا عندما يعطيهم اشارة من مسدسه .. وكانت الخطة ان يقبض هؤلاء الجنود علىجميع الرجال الذين اشتركو فى عملية تهريب البضائع اثناء قيامهم بالتهريب من البحر الى البر .. ولكن نظرا لان العملية قد تمت فى وقت مبكر بسبب وصول السفينة قبل موعدها فان الوقت المتفق عليه بين (( ماسيكو)) والجنود لبء الهجوم قد تأخر نحو ساعتين بعد اتمام عملية التهريب . .


نظر (( الزفير)) نحو الجنود .. وصاح قائدهم :


_ استسلمو .. اننا نقبض عليكم باسم الملك .. 

_ لقد ضعنا .. انهم جنود الملك فعلا .. ولكن قبل ان موت فلا بد ان يموت هذا الرجل قبلنا ..!

وتقدم الى (( ماسيكو)) ليضربه على راسه بمؤخرة المسدس .. وهنا صاح (( ماسيكو)) فى الجنود مناديا:

_ الحقونى اقتلوهم قبل ان يقتلونى !!

وقبل ان يصل (( الزفير)) الى(( ماسيكو)) ليضربه دوى صوت الرصاص .. وهوى (( ماسيكو)) على الارض وقد استقرت رصاصة فى راسه بين عينيه تماما..!!


وصاح (( الزفير)) :


_ بسرعة ياجون .. اهرب من ناحية اليسار والزم جانب الصخور لتستتر بها .. انهم لن يستطيعوا اصابتنا فى تلك المنطقة .. هيا بسرعة ؟؟!


فجريت .. وجرى(( الزفير)) خلفى .. ولكنى سقطت على ركبتى فجأة .. ووجدت نفسى غير قادر على الحركة .. وشعرت بألم شديد فى قدمى اليسرى .. وقال (( الزفير)) ملتاعا:


_ هل اصابوك انت ايضا ..؟!


وتقدم نحوى .. وحملنى بين ذراعيه .. ودوت طلقات الرصاص حولنا .. وطاشت جميع هذه الطلقات واحدة بعد الاخرى لاننا كنا محتمين خلف الصخرة .. !

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق